اليمن- دعم غزة يتحول إلى ساحة مواجهة إقليمية محتدمة

انخرط اليمنيون بكل حماس في معركة دعم غزة، دون طلب إذن من أحد، ووضعوا نصب أعينهم هدفًا واضحًا لا لبس فيه: مساندة غزة بكل ما أوتوا من قوة حتى تتوقف الحرب الإسرائيلية الظالمة، وليس قبل ذلك أبدًا، ولو بلحظة واحدة. لقد حددوا بدقة الوسائل التي سيستخدمونها والأهداف التي يسعون لتحقيقها: استهداف السفن الإسرائيلية ومنعها من الوصول إلى وجهتها المنشودة في البحر الأحمر، أي إلى ميناء إيلات.
لقد شنوا هجمات جريئة ومؤثرة في العمق الإسرائيلي، مستهدفين إيلات وتل أبيب، مما حول المرفأ الإسرائيلي الوحيد على شواطئ البحر الأحمر إلى مجرد خراب قاحل لا حياة فيه. لقد فعلوا كل ذلك بدعم شعبي جارف وواضح، تجلى في المظاهرات المليونية الحاشدة التي شهدتها مختلف المدن اليمنية، وعلى رأسها العاصمة صنعاء.
لقد حظي الحوثيون وأنصار الله بتأييد شعبي يمني واسع النطاق، مما حول هذه الجماعة المحلية إلى لاعب إقليمي بارز يُشار إليه بالبنان، واكتسب زعيم الحركة شعبية كبيرة تجاوزت حدود اليمن، ووصل صداها إلى شوارع ومدن وعواصم عربية أخرى. جماهير واسعة لم تكن تسمع بالحوثي من قبل، أو كانت لديها صورة نمطية سلبية عنه، أصبحت اليوم ترفع صوره وتهتف باسمه في شوارع عمان وبيروت وتونس والرباط وغيرها من المدن.
بينما خمدت نيران الحرب على جبهات الإسناد الأخرى، ما زالت الجبهة اليمنية مشتعلة ومتوهجة. ويربط الحوثي بين "الاستمرارية" و"التصعيد" عند الحديث عن خططه المستقبلية، على الرغم من أن صمت المدافع أصبح "مدويًا" على مختلف الجبهات الأخرى. يتحول اليمن يومًا بعد يوم إلى ساحة الاشتباك الرئيسية في المنطقة، وسط مؤشرات قوية على نية تل أبيب، بدعم قوي من لندن وواشنطن، توجيه ضربات إستراتيجية قاصمة إلى "آخر ذراع إيرانية نشطة في المنطقة"، على حد تعبير نتنياهو وأركان ائتلافه اليميني المتطرف.
وسواء كانت الجماعة تتصرف انطلاقًا من مواقف مبدئية راسخة، كما يؤكد مؤيدوها في داخل اليمن وخارجه، أو بناءً على "حسابات سياسية ذات طبيعة انتهازية"، كما يدعي خصومها، فإنه مما لا شك فيه أن الأحداث الأخيرة، بما في ذلك قصف تل أبيب والاشتباكات مع القطع الحربية الأمريكية في عرض البحر، والضربات البريطانية الأمريكية المزدوجة التي تلقتها صنعاء وغيرها من المدن اليمنية، قد أكسبت الحوثيين مزيدًا من الاحترام والثقة لدى قطاعات شعبية واسعة، على الأقل خارج اليمن. أما بالنسبة للوضع في الداخل اليمني، فيبدو أنه بحاجة إلى مزيد من المراجعة والتدقيق.
ظروف غير مواتية
إن مفهوم "الإسناد" الذي انطلقت منه الجبهات لنصرة غزة، كان يعني ضمنًا أنه إسناد متبادل، وليس في اتجاه واحد فقط، وأنه يترابط مع احتياجات مختلف الجبهات الأخرى المشاركة في هذا الفعل الإسنادي المتعدد المصادر.
إلا أن الصورة التي تتجلى اليوم تبدو مختلفة تمامًا عن هذا المعنى، وذلك نتيجة لتلاشي مفهوم "وحدة الساحات" في أول اختبار حقيقي له مع اندلاع طوفان الأقصى، وفشله بعد عام من الحرب في تجاوز "عمادة النار"، تحت ضغط الحسابات المحلية التي أصبحت أكثر تأثيرًا في تحديد مواقف الأطراف ومساراتها.
في لبنان، تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ونتيجة لذلك خرج حزب الله عن "خط الإسناد"، بعد أن تعرض لسلسلة من الضربات الموجعة التي أعاقته عن مواصلة القتال على واحدة من أهم جبهات الإسناد.
لسنا هنا بصدد "تقييم" ما إذا كان هذا الاتفاق جيدًا للبنان أم لا، فهذا أمر متروك للشعب اللبناني. لكن المؤكد أنه لم يكن اتفاقًا جيدًا بالنسبة لغزة، التي شعرت بأنها تركت وحيدة في مواجهة العدو الصهيوني المتغطرس. هذا الاتفاق بحد ذاته كان ثاني أهم ضربة تتلقاها نظرية وحدة الساحات. أما الضربة الأولى فقد جاءت من نظام الأسد، الذي قرر النأي بنفسه عن ميادين القتال، مكتفيًا بدور "محطة العبور" الذي رسمه لسوريا، أو رُسم لها، لا فرق.
لقد خرج حزب الله من ساحة المعركة مثخنًا بالجراح العميقة، وسيحتاج إلى سنوات طويلة لكي يلتئم، من أجل أن يستعيد مسيرته وأدواره السابقة، وهي مهمة يحيط بها الشك في قدرته على إنجازها، نظرًا لتغير الظروف وتبدل المشهد.
فالحزب اليوم ليس في وضع يسمح له بالرد على الانتهاكات الإسرائيلية المتغطرسة لاتفاق وقف إطلاق النار، وإسرائيل تفرض شيئًا فشيئًا قواعد اشتباك جديدة، دون أن تواجه بما يكفي لردعها ووقف عربدتها. والساحة اللبنانية تصبح بشكل أو بآخر نسخة مكررة وغير منقحة عن الساحة السورية في زمن الأسد وما بعده، كميدان اختبار للاستباحة الإسرائيلية.
لا يمكن توقع أي إسناد يُذكر من حزب الله، والمؤكد أن السيد عبدالملك الحوثي يدرك ذلك تمامًا، حتى وهو يتخذ قراره بالتصعيد والاستمرار. ولم يكن هناك أمل كبير يُرتجى من جبهة الإسناد العراقية، لا من قبل ولا من بعد، فمشاركة ما يعرف بفصائل المقاومة الإسلامية كانت "استعراضية" في الغالب، ولم تتخذ شكلًا جديًا إلا بعد الحرب الإسرائيلية "المجنونة" على لبنان وحزب الله، وبعد دخول الحوثيين بخبراتهم وخبرائهم على خط تمكين الفصائل العراقية من تسديد رميها وتفعيل ضرباتها.
البيئة الإستراتيجية المحيطة بجبهة الإسناد اليمنية ستكتمل باستدارة كاملة بسقوط نظام الأسد، وما يترتب على ذلك من خروج إيران من المعادلة السورية، وكسر "الهلال الشيعي" في "واسطة العقد".
إيران، الحليف الإقليمي الوحيد لأنصار الله، دخلت في مسار انكماشي، وتنتظرها مع مقدم إدارة ترامب سيناريوهات تتراوح بين السيئ والأسوأ. وفي الوقت نفسه، تتهاوى دوائر نفوذها الإقليمي الواحدة تلو الأخرى، وسط شعور عميق ينتاب حلفاءها وخصومها بأن لحظة الإجهاز على "المحور" ربما تكون قد أزفت، وأن على مختلف مكوناته وكياناته "التكيف" مع الواقع الجديد القائم.
لا يعني ذلك أن إيران قد فقدت "قيمتها" كقوة إقليمية وازنة، فهي قيّمة بذاتها، لكن الجديد في المشهد الإقليمي المتغير بتسارع مذهل هو أن إيران لم تعد تمتلك ترف اللعب بأوراق وأدوات خارج حدودها، وأن ما تبقى لها للحفاظ على أمنها القومي وموقعها في الإقليم هو أوراقها الذاتية الخاصة، وفي صدارتها "برنامجها النووي"، الذي لم تفلح "سلميته" في تخليصها من نظام العقوبات، ولم يعد محميًا اليوم بجبهات متقدمة يمكنها الدفاع عن إيران من خارج حدودها، فإما الانتقال إلى "عسكرة" البرنامج، كما تخشى مصادر غربية، وإما التكيف مع معطيات الإقليم بشروط أمريكية إسرائيلية مذلة. بين هذين الخيارين، ستظل إيران تراوح في موقع دفاعي متراجع، وسيبقى نفوذها في تآكل وضمور مستمرين.
ويزداد المشهد اليمني تعقيدًا اليوم، وقد يتحول إلى "مأزق" حقيقي، في ضوء عاملين اثنين: أولهما، استطالة أمد الحرب، التي لم يكن أحد يتوقع أن تأخذ كل هذا المدى والعمق والاتساع، لا الحوثيون ولا غيرهم، وتحولها إلى سلاح ذي حدين، وسقوط نظرية أن إسرائيل لا تحتمل الحروب طويلة الأمد، وعلى أكثر من جبهة، وفي عمقها الداخلي، وغير ذلك مما شكل من قبل عناصر ارتكاز "نظرية الأمن الإسرائيلي".
وثانيهما، اقتراب اليمن من خوض أكبر فصول المواجهة مع الإسرائيليين (ومن خلفهم الأمريكيون والبريطانيون)، تزامنًا مع تواتر الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة ذاتها. لذا لن يكون مفاجئًا أبدًا أن نرى النار وقد انطفأت في غزة، بينما أُوارها يشتد في اليمن وعليه.
تلكم مفارقة سيكون لها أثرها الذي لا يمكن إنكاره على النقاشات داخل اليمن، وستسهم في إحداث تغيير في المواقف والمواقع والتحالفات. سيخرج من بين اليمنيين، وربما من بيئة أنصار الله، من سيتساءل: هل يعقل أن نظل وحدنا في الميدان؟ هل من المصلحة أن تعلو تهديدات قادة الحوثيين بالاستمرارية والتصعيد، في حين أن قادة المقاومة الفلسطينية أنفسهم ينشرون أجواءً من التفاؤل بقرب إبرام صفقة لوقف الحرب؟ هل يصح، بعد أن أعلنت فصائل "المقاومة العراقية" أن إسنادها كان مرتبطًا بحزب الله والحرب عليه، وأنه لا مبرر اليوم للاستمرار فيه، أن تُضرب عرض الحائط بالجبهات الأخرى المفتوحة؟ ماذا عن اليمن، ألا يستحق إسنادًا مماثلًا، أم أن مفهوم وحدة الساحات يقتصر على مكونات وكيانات بعينها؟
الثأر قبل الدبلوماسية
إسرائيل أعلنت الحرب على اليمن، شماله وحوثييه، وهي تكتشف أنها لا تمتلك "بنك معلومات" كافٍ عن هذه الساحة، ولم تكن لتقيم لها وزنًا أو حسابًا، لكن هذه الثغرة يمكن ملؤها بالتنسيق الأمني مع الولايات المتحدة والغرب وبعض العرب واليمنيين، وسيكون ثمة أهداف ذات طبيعة إستراتيجية يتعين ضربها، وقد يتولى "الموساد" جنبًا إلى جنب مع سلاح الجو، ووحدات من القوات الخاصة، المهمة برمتها.
فالحرب على اليمن في مرحلتها الأولى ستأخذ، كما كان الحال في غزة ولبنان ولاحقًا في سوريا، شكلًا تدميريًا ممنهجًا، مصحوبًا بعمليات استخباراتية واغتيالات لشخصيات وازنة. تلكم هي سيرة إسرائيل ونظريتها للأمن القومي.
ولن يجد اليمنيون من يبكي عليهم كثيرًا، سواء في الغرب أو الشرق. أما على المستوى العربي، فسوف يلقون ما لقيه الفلسطينيون واللبنانيون: تعاطفًا شعبيًا حبيسًا إلا في بعض الساحات الأكثر انفتاحًا، وعجزًا عربيًا بالغًا يصل إلى حد التواطؤ والتآمر. فالحوثيون لهم خصوم وأعداء كثر في المنطقة، وسوف يجدون في هذه الحرب فرصة لتسوية الحسابات وإغلاق الملفات.
وليس مستبعدًا أبدًا أن يجد معسكر الأعداء والخصوم ضالته في إعادة فتح الملف اليمني الداخلي على اتساعه. صحيح أن شهية الدول العربية (ذات الصلة) للعودة إلى الحرب لم تعد كما كانت عليه من قبل، وصحيح أن رغبة هذه الدول في خوض الحرب على إيران داخل حدودها أو خارجها قد تقلصت أو ربما انعدمت، لكن الصحيح كذلك أن ثمة أطرافًا محلية متحفزة لتصفية الحسابات مع الحوثيين، وأخرى إقليمية جاهزة لمد يد العون والإسناد للوكلاء. وربما نبدأ بالاستماع لشعارات انسحاب الحوثيين إلى شمال صنعاء، أسوة بشعار انسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني.
المؤسف حقًا هو أن رغبة إسرائيل في تصفية الحساب مع أنصار الله والثأر من قيادته ومقدراته لا يقابلها استعدادات عربية أو دولية للتوسط والوساطة، وأن احتدام المواجهة على هذه الجبهة يأتي قبل أسابيع ثلاثة فقط من وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأن الرجل لن يكون متسامحًا في كل ما يتصل بحسابات التجارة والملاحة وأمن إسرائيل وخنق إيران وتقطيع أذرعها.
والمقلق حقًا أن ثمة في تل أبيب وواشنطن من لا يرى في اليمن أهدافًا تستحق عناء خوض الحرب وتحشيد الجيوش، وأنه من باب أولى تسخير كل هذه الإمكانات والموارد لضرب "رأس محور الشر"، بعد أن ضُربت أطرافه، وأن إيران ستكون المحطة التالية في حرب إسرائيل وحلفائها على الشرق الأوسط القديم، ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان، في إقليم عُرِف بمفاجآته وتبدلاته المذهلة والصاعقة.